فصل: من فوائد الزمخشري في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حين أسرف اليهود في المادية أراد الله أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام.
ليحصل الاعتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط.
إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لأنه لا معاندات في الرسالات. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الموكب الرسالي، كان ولابد أن يصفه الله سبحانه وصفًّا ليس بالكلام، بل يصفه كصورة، بحيث إذا رأوه يعرفونه، ولذلك نجد سيدنا سلمان الفارسي حين رأى رسول الله في المدينة ورأى منه علامات كثيرة أحب أن يرى فيه علامة مادية، فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة.
ولكن هل نفع ذلك؟ نعم، فكثير من الناس آمن به. وقد أقام رسول الله مناظرة بينه وبين اليهود بواسطة عبدالله بن سلام، الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول الله: «يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبدالله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبدالله بن سَلاَم؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبدالله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبدالله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه».
إذن فالأوصاف الكلامية والأوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى لا يقال: إن أديان السماء تتعاند، إنها كلها متكاتفة في أن تصل الأرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زمانًا ومكانًا. وقديمًا كان العالم معزولًا عن بعضه، وكل بيئة لها أجواؤها وداءاتها؛ فيأتي الرسول ليعالج في مكان خاص داءات خاصة، لكن الله جاء برسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توحدت هذه الداءات في الدنيا؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية، وجاء رسول الله مؤيدًا بأوصافه ومؤيدًا بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغلالهم، والإِصر هو الحِمْل الثقيل، والأغلال جمع غُلّ وهو الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة.
وقد ذكر الحق الأوصاف ومهَّد الأذهان إلى مجيء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم الأغلال بالنور الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسالة المحمدية هي الجامعة المانعة، ولذلك يقول الحق بعد ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...}. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأعراف: آية 142]

{وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
وروى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك اللّه عدوّهم، أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يومًا وهو شهر ذى القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى اللّه تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره اللّه تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره اللّه أن يصوم ثلاثين يومًا، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من اللّه ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، وفصلها هاهنا. و{مِيقاتُ رَبِّهِ} ما وقته له من الوقت وضربه له. و{أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} نصب على الحال أي تمَّ بالغًا هذا العدد. و{هارُونَ} عطف بيان لأخيه. وقرئ بالضم على النداء {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} كن خليفتي فيهم {وَأَصْلِحْ} وكن مصلحًا. أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بنى إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.

.[سورة الأعراف: آية 143]

{وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}.
{لِمِيقاتِنا} لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدنا. ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة كما يكلم الملك، وتكليمه: أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح وروى: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كلمه أربعين يوما وأربعين ليلة، وكتب له الألواح. وقيل إنما كلمه في أول الأربعين {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ثانى مفعولي أرنى محذوف أي أرنى نفسك أنظر إليك. فإن قلت: الرؤية عين النظر، فكيف قيل: أرنى أنظر إليك؟ قلت: معنى أرنى نفسك، اجعلنى متمكنًا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، فإن قلت: فكيف قال: {لَنْ} تَرانِي ولم يقل لن تنظر إلىّ، لقوله: {أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؟ قلت: لما قال: {أَرِنِي} بمعنى اجعلنى متمكنًا من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل: لن تراني، ولم يقل لن تنظر إلىّ. فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك- وهو من أعلم الناس باللّه وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة. وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة. ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال- حين أخذت الرجفة الذين قالوا أرنا اللّه جهرة- {أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا} إلى قوله: {تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ} فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالا-؟ قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا. وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لابدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك، وهو قوله: {لَنْ تَرانِي} ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. فإن قلت: فهلا قال: أرهم ينظروا إليك؟ قلت: لأنّ اللّه سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسماعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادة مبنية على قياس فاسد. فلذلك قال موسى: أرنى أنظر إليك، ولأنه إذا زجر عما طلب، وأنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند اللّه تعالى، وقيل له: لن يكون ذلك: كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعًا إليهم. وقوله أَنْظُرْ إِلَيْكَ وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم، وجل صاحب الجمل أن يجعل اللّه منظورًا إليه، مقابلا بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة اللّه تعالى من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبى الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين؟ فإن قلت: ما معنى لَنْ؟ قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفى المستقبل. تقول: لا أفعل غدًا، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدًا. والمعنى: أنّ فعله ينافي حالى، كقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} نفى للرؤية فيما يستقبل. و{لن تراني} تأكيد وبيان، لأنّ المنفي مناف لصفاته. فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} بما قبله؟ قلت: اتصل به على معنى أنّ النظر إلىّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر: وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا}، {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا}. {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ} كما كان مستقرًا ثابتًا ذاهبًا في جهاته فَسَوْفَ تَرانِي تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض، وهذا كلام مدمج بعضه في بعض، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع. ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعنى قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي}. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير. والدكّ والدقّ أخوان، كالشك والشق. وقرئ {دكاء}. والدكاء: اسم للرابية الناشزة من الأرض، كالدكة أو أرضًا دكاء مستوية. ومنه قولهم: ناقة دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي: قال لي الربيع بن خثيم: ابسط يدك دكاء، أي مدّها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب: {دكا}، أي قطعًا دكا جمع دكاء {وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا} من هول ما رأى. وصعق من باب: فعلته ففعل. يقال صعقته فصعق. وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة، من صقعه إذا ضربه على رأسه ومعناه: خرّ مغشيًا عليه غشية كالموت، وروى أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة؟ فَلَمَّا أَفاقَ من صعقته قال: {سُبْحانَكَ} أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنك لست بمرئىّ ولا مدرك بشيء من الحواس. فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فممّ تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه، من غير إذن فيه من اللّه تعالى، فانظر إلى إعظام اللّه تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكا، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئًا إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال أنا أول المؤمنين، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا. ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم! والقول ما قال بعض العدلية فيهم:
لجماعة سموا هواهم سنّة ** وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ** شنع الورى فتستّروا بالبلكفه

وتفسير آخر: وهو أن يريد بقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} عرّفنى نفسك تعريفًا واضحًا جليًا، كأنها إرادة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك أَنْظُرْ إِلَيْكَ أعرفك معرفة اضطرار، كأنى أنظر إليك، كما جاء في الحديث: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر».
بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى قالَ لَنْ تَرانِي أي لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل، فإنى أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطبيقها، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا لعظم ما رأى {فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} مما اقترحت وتجاسرت {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بعظمتك وجلالك، وأن شيئًا لا يقوم لبطشك وبأسك.

.[سورة الأعراف: آية 144]

{قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}.
{اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم {بِرِسالاتِي} وهي أسفار التوراة {وَبِكَلامِي} وبتكليمى إياك {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ} ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خرّ موسى صعقًا يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم النحر. فإن قلت: كيف قيل: اصطفيتك على الناس وكان هارون مصطفى مثله ونبيا؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعًا له وردآً ووزيرًا. والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.